ليسَ فقط دفاعًا عن
اللغةِ العربيةِ
بل أيضًا عن أجيالٍ
قادمة
كانَ أغلبُ ظَنى أنَّ اللغةَ العربيةَ أضحت بِلا مُدافعٍ عنها ولا رَاغبٍ فى
دراستِها ولا مُحترِمٍ لقواعِدها حتى شَاهدتُ قناةِ " النهار اليوم " فى
حلقةِ " دائرة الضوء " المذاعة فى الثلاثين من نوفمبر حيثُ استضاف
فيها البرنامج الدكتورة / تغريد عنبر ؛ وعلى الرغمِ من أنَّ البرنامج أفردَ
لها وقتًا قصيرًا غير أنَّها ألَمَّت – على ما أظنُّ - بمعظمِ أطرفِ الموضوع .
وكنتُ قد كتبتُ فى نهايةِ مُقدِّمةِ أحد مؤلفاتى " وأخيرًا ، وقد سَائَنى كثيرًا ما ألمَّ
باللغةِ العربيةِ منْ إهمالِ هذا الجيلِ لأُصولِها العَريقةِ وقَواعِدِها
الراسِخَةِ ، وقد قَلَّ عددُ سَدَنَتِها - حتى بَينَ مُعَلِّميها - ، لِذلك فقد
رأيتُ أنْ أُعنَى بلغةِ الكتابةِ ، وأنْ أشَكِّلَهَا تَشكيلًا عربيًا صحيحًا ،
آملًا أنْ يحتذىَ العديدُ منَ الكتَّابِ بهذا النَهجِ المَحمودِ إعلاءً
لِلُغَتِنَا الجميلة ، وحتى نُعيدَ ضبطَ إيقاعِ اللغةِ العربيةِ على أذنِ جيلٍ
أصبحَ على وشكِ استبدالِها بلغةٍ جديدةٍ مجتزَئَةٍ من اللغةِ العربية ؛ وأيضًا
وبنفسِ القدرِ تأكيدًا لِمعانى الكلماتِ حتى تُؤخَذَ بِمقصدِها . ولا يظنَّن
أحدُكم أنَّ ذلك كانَ هدفًا ميسورًا ، فقد استعنتُ بالكتابِ وبالمعلمِ
وبالمراجعاتِ المتتاليةِ ، فكانا لى خيرَ العونِ والصديق . " طامعًا فى أنْ أَضمَّ صَوتى إلى
المجتمعِ الصغيرِ الذى اتخذَ منَ الدفاعِ عن العربيةِ سبيلًا .
تتعلمُ الأممُ من تاريخِها لِتصوِّبَ خُطاها ، وقد فقدنا سابقًا حضارةً
كاملةً بِانقراضِ اللغةِ الفرعونيةِ لولا محاولاتِ الدكتورة وأمثالِها من الأجانبِ
والمصريينَ لجمعِ شتاتِ أخبارِ لغتِهم . فهل نتركُ لغتَنا لتتبدَّلَ حتى تُمنَعَ
أجيالُنا القادِمة من الاستفادةِ مما اقترفناهُ من أخطاءٍ ومما أتينا بهِ من صالحِ
الأعمال ؟ فإنَّ اللغةَ هى أداةُ نقلِ الحكمةِ من جيلٍ إلى آخر حتى يُرتِّبَ
النتائجَ التى وصلَ إليها السابقونَ على المقدماتِ التى أدت إلى تلكَ النتائج .
أما عن موضوعِ الحلقةِ فإنَّ ما ذَكرَتْهُ الدكتورة من تغييرِ مُسمياتِ
الإعرابِ أو تقسيمِ الأفعالِ بدلًا من وزنِها فإنَّ مما لا شكَّ فيهِ أنَّهُ من
المسموحاتِ ، فلا توجد قاعدة مقدسة ، وقد حدثَ ذلك سابقًا ، فما تعلم بهِ جيلُنا تَعلَّمَ
الجيلُ التالى لنا بما هوَ أيسرُ على الطالبِ رغمَ تضخُّمِهِ بالقواعد . ويجبُ ألَّا
ننسى قولَ عميدِ الأدبِ العربىِّ طهَ حُسيْن حين شَبَّهَ اللغة العربية بكائنٍ حىٍ
فقال " وهى ملكُنا ولنَا أنْ نُعدِّلَ فيها أو أنْ نُضيفَ إليها " ولكنَّ
أغلبَ ظنى أنْ لو كانَ قد عاشَ ما نَعيشُهُ اليومَ من اجتزاءِ اللغةِ لكانَ قد وضعَ
شروطًا للتعديلِ بحيثُ نَحتفظ باللغةِ العربيةِ لابنائِنا كَريمةً مرفوعة الهامةِ
كأشمِّ الجبالِ بين لغاتِ العالمِ كما سلمَّها لنا سلفُنا .
أمَّا قولُ الدكتورة عن وجوبِ اهتمامِ الدولةِ باللغةِ فإنَّ هذا حُلمٌ لنْ
يتحقق حتى يَقومَ المجتمعُ الأهلىُّ المدنىُّ بِدورِهِ من خلالِ التنظيماتِ
الحاليةِ مثل مَجْمَعِ اللغةِ العربيةِ - الذى ترأسَهُ العمالقةُ - واتحادِ الكُتَّابِ
الذى ما انفكَّ أعضاؤُه يحافظونَ على خِلافاتِهم حتى باتوا أسوءَ من حُكامِ الدولِ
العربيةِ فى تَشَرذُمِهم .
ولكن لا يفوتُنى أنْ اذكرَ ما قَدمَّهُ مُقدمُ البرنامج – ولم تعارضْهُ فيه
الدكتورة – فى تَرحيلِ دِراسةِ النحوِ بتعقيداتِهِ إلى المدرسةِ الإعداديةِ - على
سندٍ من قولهِ - تيسيرًا على الطلاب ، وإدراكًا مِنهُ بأنَّهم لا يحتاجُونَهُ ،
فإنَّ هذا الفعلُ خائبٌ بذاتهِ ومُضرٌ فى نتائجهِ ومضرٌ فى أثرهِ ، فإنَّ الطالبَ
فى المرحلةِ الاعدادية يكونُ فى المرحلةِ السنيةِ ثلاثَ عشرةِ ربما إلى السادسة
عشرةِ ، بينما كانَ نبوغُ أميرَ الشعراءِ - وقد التحقَ بكليةِ الحقوقِ فى الخامسةِ
عشرَ - قد بَدا عبقريا فى قرضِ الشعرِ بعد عامٍ واحد ؛ كما تُوِّجَ أمادايوس موتزارت
أميرًا للموسيقى الكلاسيكيةِ فى عمرِ الزهورِ وتُوفى - بعد أنْ صاغَ كنوزًا تَنعمُ
بها الأدميةُ - فى الخامِسةِ والثلاثينَ من عمرهِ ، مثلُهُ كَمثلِ موسيقارنا سيد
درويش . فهل لنا أنْ نُعجِّلَ بتعليمِ أبنائنا حتى يقتدوا بسيرِ الأولينَ نبوغًا
وعبقريةً ، ولا علينا فإنَّ الخالقَ - عزَّ وجلَّ - قد أهَّلَهُم من عندِه بما
يلزمُ لذلكَ .
أما
ما قالتهُ الدكتورة عن تعليمِ مبادئِ قَبُولِ الرأىِ والرأىِ الأخرِ ، فإنَّها
بقولٍ بسيطٍ ، وفى أربعِ كلماتٍ صغارٍ لَمِستْ بِهم أصلَ الموضوعِ الذى يعيق تقدم
مصر؛ فوالذى نفسى بيدهِ لا ينصلح حالُ مصرَ حتى يقبلَ الفردُ آخرًا أفنى حياتَهُ
فى الدفاعِ عن أمرٍ أمضى هو حياتَهُ فى الدفاعِ عن عكسِه .