Saturday, May 24, 2014

الإختيار

الإختيار
        مع إقتراب موعد إنتهاء فترة الدعاية الإنتخابية ، وبداية فترة الصمت الإنتخابى ، فإنه يلزمُنا وقفةً لتحليل كيف حَصَّلَ الشعبُ الحملة الدعائية للمرشَّحَيْن .
        فى الواقع أن الشعب المصرى يواجه إختيارًا صعبًا على الرغم من محدودية المرشحين هذه المرة ، وبإجراءِ مقارنةٍ سريعة بين المرشحين ، فإننا نجد أن أحدهما برنامجه شبه سرى حيث أوردت الأهرام فى حديثٍ معه أنّهُ يَملك برنامجًا مُفصلًا يَحمل فى طياتِه البيانات الكاملة والتوقيتات الزمنية لكل عملٍ ، إلا أنّ نشر البرنامج قد يضر ولا يفيد حسب ما ورد بالحديث مع الأهرام ؛ بينما أعلن المرشح الآخر عن برنامجٍ ضعيف تمَثلَ فى أحد بنوده إصلاح شركات الغزل عن طريقِ دفع إستثماراتٍ جديدة للشركات حتى تنهض ، وهو أمرٌ كانت تقوم به الحكومات المتعاقِبة دُون نَجاح ، فكيف لنا أنْ نُؤيدهُ فى هذا الأمر وهو لم يبين كَيف أنّ عمله سَيختلف عنْ مَن سَبَقَه من الرؤساء أو الوزراء ثم أنتهى بامعان الشركات فى الديون حتى أصبحت غير قادرة على دفع أجور عمالها ؛ كما أنه بَيّنَ لنا أنه غَير رَاضٍ عن إستيراد القطن وإنه سيزرع الصعيد بألاف الأفدنة من القطن حتى تشتَريه المصانع فتنطلق فى صناعاتها وصولا إلى الإصلاح ، بينما وهو لم يدرك أنّ إرتفاع سعر إنتاج القطن المصرى عن مثيله المستورد هو الذى يدفع المصانع للإستيراد ، فكان يجدر به  أن يُبَيِّنَ كيف سَيَبْنِى سياساتٍ لتغيير قوام التكلفة لزراعة القطن ، حتى تُصبح إقتصادية . وعلى صعيد أخر فإن أحد المرشحَيْن لم يرى الشعب أنه أدار أى مؤسسةٍ أو شركةٍ ، أو أدارَ مَجموعة من الموظفين ، ثم يطلبُ منا أن نضعَ إدارة الدولةِ فى يَدِه ؛ بينما الأخر قد أدار مؤسساتٍ يعلمُ عنها كل مواطن .
        وعلى محورٍ أخر فأحدُهما ضَعيفٌ جِدًا فى اللغات الأجنبية طبقًا لما ظهر من أحاديثه مع الإعلام الأجنبى ، بينما المرشح الآخر ، وإن لم نر له أحاديث أجنبية مذاعة ، إلا أننا يمكن أن نفترض أنه أفضل من المرشح الآخر بما رأيناه من لقاءاته بالوفود الأجنبية حينما كان وزيرا للدفاع ؛ ومسألة اللغات هى عموما نقطة غير أساسية إلا أنه من المستحسن وجودها .
        ومن جهة الحملات الإنتخابية فقد تساوى المرشحان فى الوعود التى أفردوها للشعب إلا أنهم لم يبينوا لنا طريقًا سائغًا لتحقيقِها .
        أما إذا ما نظرنا إلى ما سيحدث بعد الإنتخابات فى معترك إدارة البلاد وهى على حافة الهاوية ، وأنّ الشعبَ قد مارس الصبر على ضيق حالِه إلى أبعدِ الحدود ، وأنّ صبره مهما طال فإنّهُ إلى نهايةٍ قريبة ، وأنّ المَطلوب من الرئيس القادم أنْ يَشْعُرَ الشعب أنّ كلَّ يَومٍ يمر هو أفضلُ من اليوم الذى سَبقه ، وأنّ الشعب لن يقبلَ فى هذا أعذارٌ أو أسبابٌ لعدم تحقيق ذلك ، ففى هذا المضمار ، ومع صعوبة الطريق الدستورى لإقصاء رئيسٍ عن منصبهِ فى حالة الخطأ أوعدم الوفاء بوعده هذا ، فإن أحد المرشحيْن إقصاؤُهُ أيسر من الأخر الذى فهو أضعف ظهيرًا من الأول الذى هو أوفرُ ظهيرًا من الثاتى .
        وإذا ناقشنا الإحتمالات القائمة فإن المشير هو صاحب الحظ الأوفر فى الفوز بالإنتخابات ، ليس بشعبيته بين المثقفين وحسب ، وإنما أيضًا بالنظر إلى ما أبديته من تحليل فى صدرِ هذا المقال ؛ ولكن المسؤلية عظيمة ولا مُنَجِّى منها إلا النجاح فيما يطلبه الشعب من الرئيس ، ألَا وهو : كل يومٍ أفضلُ من اليوم الذى يسبقه . بهذا فقط يَمتدُ صبر الشعب ، ولا يلزَمُنى هُنا التنويه بأنّ الشعب المقصود هنا هُم الفقراء منه . ولا داعى لأن أقولَ فى هذا الشأن أنّ التيار الشعبى سينتهى إن نجح مرشحُه ولم يفى بالوعد ؛ بينما سَتفقد القوات المسلحة أىَّ أملٍ فى أنْ يترشح منها رَئيسٌ أخر إذا لم يفى المشير بما وعد به الشعب إن نجح .
        كما يجب ألا ننسى أنّ هُناك تيارٌ ثالث قَابِعٌ فى سكون ، بعد ما تسلم الحكم ففشِلَ وأساءَ العمل بالسلطة ، إلا أنّه يتربصُ بالفريقين آمِلًا أن يُشكِلَ فَشلَ من ينجحَ منهم طوقَ نجاةٍ لهم من موقفهم الحالى .

Tuesday, May 6, 2014

بين القانون والسياسة

بينَ القانونِ والسياسة
        عِلاقة شائكة بين سلطة القانون وسطوته ، والسلطة السياسية للدولة وحكمها ؛ ولكن من يسبق من ، ومن يتبع من ؛ هذا ما تناوله كثيرون في كتاباتهم ، فكثيرون إنتهوا إلى أنّ سيطرة القانون تسبق الشأن السياسى ، وكذلك إنتهى كثيرون إلى أنّ السلطة السياسية تَسبِقُ السلطة القانونية .
        ولذا لزم البحث عن خلفيات المؤيدين لكل رأىٍ من الرأيَيْن ، فإن حديث الشخص يُبْنَى على خلفياته ، نَشْأَةً وتعليمًا وثقافتةً ، بالإضافة إلى دَورِهِ في الحياة العملية أو وظيفته . ومِن خلالِ علاقاتى بالناس قُمت بجمع مجموعة آراءٍ لكل فرد ، وبالمقابل لهذه الآراء قَسَّمتُ الأفراد إلى مجموعاتٍ وفقًا لِلنشأةِ والثقافة والتعليم والعمل أو دَورهُ فى الحياةِ العملية .
        فوجدت أن كل هذه الخلفيات تُؤثِّرُ على رأى ، أو على قرارِ الفرد بنسبٍ مُتفاوِته ، ولكن مما لا ريب فيه أنّ أكثر هذه الخلفيات تأثيرًا على رأىِ الفرد هو دورهُ فى الحياة العملية أو على وجه التحديد عَمَلهُ أو طبيعةِ عمله ، وهو فى الواقع أمرٌ منطقى من حيث الأسبابِ والمقدمات ، فإن الإنسان يقضى معظم فترات حياته فى العمل ، ويكون الفرد أكثرُ نضجًا أيضًا فى المرحلةِ السِّنية التى يمارس فيها العمل ، وهو عموما يؤمن بأهمية عمله .
        فقد وجدتُ أنّ من يشتَغل بِالقضاءِ يتمسك بتطبيقِ القانون ، بينما من يعمل بالمحاماةِ ، وعلى الرغم من إتحاد خَلفياتِهم التعليمية ، إلا أنّهم أول ما يفكروا فيه هو الإلتفاف على النصوص القانونية والتفتيش عن ثغراتٍ يُمكن لهم أن يمروا منها إلى الحصول على الحكم الذى يرغبون فيه لموكلهم ، كما وجدتُ أنّ العسكريين أكثرُ ميلًا لِإستخدامِ القوة ، حتى وإنْ كانَ لهم خلفيةٌ تَعليميةٌ مختلفة ، مثل الهندسة أو الطب قبل العمل العسكرى . وهو ما يقطع بأن دور الفرد في الحياة العملية أكثر تأثيرًا فى تكوين الرأى أو بناء المنطق عنده . ونجد أنّ من كان ذو خلفيةٍ اقتصادية يميلُ إلى استخدام الإقتصاد والسياسات المالية والنقدية لتوجيه الناس إلى الوجهة التى يُرادُ الوصولَ إليها . وبينما يميل العمال إلى إصلاحِ أدواتهم أو منقولاتهم بدلا من تغييرها ، تجد الرجالَ متسعوا الأعمال يُضحونَ بالمالِ ليشتروا بِه الوقت .
        أما السياسيون فإنهم فِئةٌ مختلفة ؛ فإنهم يَبرزون مِن وسطِ كلِّ تلك الفئات ، ويتخذون مِن المُحاورةِ بالكلام مهنة ، ويُضيِّعُونَ وقتًا كبيرًا فى المفاوضات والمحاورات ، ولا يُغلقون أبواب المفاوضة أبدًا بل يُؤجلونها عند الضرورة ، ويبدونَ الكثير من المرونة فى مقابلِ الصَّلابَةُ فى الآراء التي يبديها الأطباءُ والمهندسون والعسكريون ، وهم على ذلك الوضع حتى إنتشر بين الناس القول بِأنّ فُلانٌ سِياسى ، أى أنه غير تَصادمى ، لينَ الحديث يصلُ إلى ما يبغيهِ عن طريق الحوار .
        والسياسةُ فى العصر الحديث أصبحتْ عِلمًا يُدرس في المعاهد والكليات كما يحصل عليه الإنسان أيضًا فى بعض الأحيان عن طريق التأمل ، والإستنباط من العِبرات التاريخية المستمدة من الحياة . وهو علمٌ بُنِىَ أساسًا على علم الفلسفة ، وقد أنشأ لهُ فلاسفةُ الأغريق مدارسَ لِلعلم . وقد إنْبَنَى(1) علم السياسة على قاعدتين ، الأولى هى الحكمة فى إختيار الطريق الذى يسلكه الشخص فى الأزمة ، والثانيةُ هى الأولويات التوافُقات ، فإنهما قاعدتان أساسيتان لنجاح العمل السياسى . بمعنى أنه فى بِناءِ خُطةِ عمل لهدفٍ محدد ، فإنه يجب عدم إهمال التداعيات الجانبية لهذه الخُطة ، فإن ظهر منها أنّ إصلاح القلب سَيُودِى بالكبد ، فهنا يلزم النظر للأولويات والتوافقات ، فإنه لا يَهمُنَا بِأيهِما تُوفىَ المريض .
        والسياسيون ينقسمون إلى قسمين ، فبعضهم ينغمسون فى المجتمع فيلمسون آلامه وآماله ويجتهدون فى كتابة الحلول ، والبعض الآخر هم أصحاب رؤى يتلامسون مباشرةً مع الناس ويترشحون فى الإنتخابات ليحلوا مشاكل الناس ، وأحيانًا كثيرة يتداخل القسمين حتى يصعب التفريق بينهم .     
        القلاقل فى الأوطانِ دوافعها إمّا سياسية أو دينية أو عرقية . وقد تغلبت الدول التى إستقرت فيها الحياة وأتسمت بالهدوء بطريقٍ واحد ، ففي الشأن السياسى إستقرت الأوضاع فقط عن طريق التسليم بِنتائجِ إنتخاباتٍ عادلة ، يَشترك فيها جَميع الفُرقاء السياسيين بِلا شُروطٍ مُسبقة إلا من قَبُولِ نتائج الصناديق ، وأمّا فى الشأن الدينىْ فقد إستقرت الدول عندما جَعلت الدين علاقةٌ بين الفردِ والرب ولا دخل للمجتمع فيها ، فأبعدوا الدين عن العمل السياسى . وأمّا فى الشأن العرقىْ ، ولما كانت الأعراقُ أو الأعرافُ هى مُرتبطةٌ بِالأرض ، كما أورد ذلك الفلاسفة الأغريق فى مدوناتهم ، فإننا نلاحظ تجمع الناس من ذوى الأعراف المتفقة فى مَناطق جغرافية محددة ، مَثَلُها كمثلِ التى منها أعراف الثار فى مصر ، وتركزها فى الصعيد ، إلى آخر الأعراف المعروفة فى كل وطن ، وقد عالجت هذا الدول التى إستقرت أوضاعها عن طريق منح قدرًا من الحكم الذاتى للمناطق ، فقد قسمتها إلى وحدات إدارية أو محافظات تَخْتَارُ قياداتها بنفسها ، ولها قدرٌ من الحرية والمرونة فى إصدار القوانين المنظمةِ لها ، بل وأشْرَك مُواطنوا المِنطقة فى إصدار الأحكام بِالمحاكم فيما سُمِّىَ بالمحلفين ، وقد أقرت هذا النظام الدول الأنجلوساكسونية وعممته فى كثيرٍ من محاكمها .
        ومن هنا أصبح من الواضح لنا أنّ إنشاء القانون أو ترتيبِ أمور الدول هو عملٌ يجب يقوم به السياسيون المنتخبون إذ هم الأقدر على إدراك رغبات الناس وتحصيل آمالهم وسنها فى قوانين ، وأما الذى يختص بتطبيقها أو بتنفيذها فهم رِجالُ القانون . ومن هنا ظهر ضرورة الفصل بين السلطات مع رقابتها لبعضها ، وهو أمر أساسىٌ فى تكوين الدول العصرية المتقدمة . فتصبح بهذا السلطة المنتخبة تعلو على السلطة المعينة مثل القضاء ، بينما يمنع القضاء فساد السلطة المنتخبة باستقرار المبدأ القانونى ألا يحصَّن أى عمل أو قرار من رقابةِ القضاء ، ويكون فى هذا الحال الحكمُ موجهًا ضد أفرادٍ بعينهم لخطإهم سواءً كانوا أفرادًا معينون أو منتخبون ، وليس موجهًا ضد سلطةٍ منتخبة .
        ومن هنا وضح لنا أن السياسيون لهم الخطوة الأولى في ترتيب المجتمع ثم يتلوهم رجال القانون بالتطبيق . وإذا نظرنا إلى الشأن المصرى فنجد أنه كان هناك فصل واضح بين السلطة السياسية والسلطة القانونية فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، وقد بدأ تداخل السلطات مع ثورة 1952 ؛ ففى بدايتها وبعد أن نُودِىَ بأحمد فؤاد الثانى ملكًا لمصر والسودان ، وأعلنَ مجلس الوزراء أنه تولى سلطات الملك الدستورية ، باسم الأمة المصرية إلى أن يحين الوقت ليسلم مقاليدها إلى مجلس الوصاية وفقًا لأحكام الدستور . 
وكان المَلِكُ قبل تنازله قد كتب أسماء الأوصياء على ابنهِ فى مظروفَيْن ، أودع أحدهما بالدِّيوان المَلكىْ ، والثانى برئاسة مجلس الوزراء ، على أن يُفضَّ المظروفان في البرلمان طبقًا لأحكام الدستور ، وللبرلمان أنْ يُصَدِّقَ على أشخاص الأوصياء ، أو يُعين سواهم . وقد كان هذا الترتيبُ فرصةً لإثارة النزعات الحزبية القديمة ، فحزب الوفد يأمل فى أن يُعقد مجلس النواب المنحل الذي كان يُمثَّلُ فيه بأغلبيةٍ كبيرة ، بينما ترى الأحزاب المعارضة له أنّ مادة الدستور لا تنطبق إلا في حالة وفاة الملك ، إذ نصت المادة 52 على " أثر وفاة الملك يجتمع المجلسان ، بحكم القانون ، في مدى عشرة أيام من تاريخ الوفاة . فإذا كان مجلس النواب منحلاً، وكان الميعاد المعين فى أمر الحل للاجتماع يتجاوز اليوم العاشر ، فإن المجلس القديم يعود للعمل حتى يجتمع المجلس ، الذي يخلفه " ، وتنص المادة 54 على: " في حالة خلو العرش ، لعدم وجود من يخلف الملك ، أو لعدم تعيين خلف له ، وفقاً لأحكام المادة السابقة ، يجتمع المجلسان ، بحكم القانون فورًا فى هيئة مؤتمر لاختيار الملك ".
        ورأس د. عبد الرازق السنهوري رئيس مجلس الدولة اجتماعًا ركز فيه بوجهٍ خاص على أحكام دستور عام 1923 فى شأن الوصاية على العرش ، بأنها واجهت فقط حالة وفاة الملك ، ولم تتناول الحالات الأخرى لانتهاء حكمه مثل خلعِه أو تنازلِه عن العرش . وعقب د. السنهورى علي ذلك، قائلاً: " لا محيص، إزاء هذا القصور من استنباط الحل المناسب ، وهو إصدار تشريع جديد بتعديل أحكام الأمر الملكي الصادر فى 13 ابريل 1923 بوضع نظامٍ لتوارث عرش الملكة المصرية ، وذلك بإضافة نصٍ جديد ، يعالج خصيصاً الحالة المعروضة ، حالة نزول الملك عن العرش ، وانتقال ولاية الملك إلى خلف قاصر ، وفي وقت يكون فيه مجلس النواب منحلاً " .
        ونلاحظ هنا وفيما سيليه من أحداث تدخل الرجال المعينون والموظفون فى الشأن السياسى بمحاولة سن نصوص قانونية أو دستورية أو تعديلها بلا توجيه سياسى ، فالرجال المنتخبون هم الأقدر على تحصيل رغبات وآمال الناس .
        وقال اللواء محمد نجيب(2) معلقًا على ذلك ، بقوله: " لقد فصلوا قانونًا حسب الحاجة ". ثم يضيف : وبعد أقل من أسبوع على رحيل الملك ، كنا نسير في طريق تكييف القوانين ، الذى إنتهى بنا إلى هاوية اللاقانون ، بعد ذلك أصبح هذا الخطأ الصغير بداية مشوارٍ طويل من الأخطاء .
        وقد انتقدت الصحف هذه الواقعة الجسيمة ، فقال أحمد أبو الفتح ، في جريدة المصرى الوفدية : " فى اعتقادي أنّ الخطأ قد بدأ يوم أن أفتى قسم الرأى فى مجلس الدولة فتواه فى مجلس الوصاية المؤقت وتلاه خطأ آخر ، يوم أن استمسك على ماهر بهذه الفتوى ، ويوم نادى بعض الكتاب بالفقه الثورى . وفي اعتقادى أن فى تلك الأيام بدأت الأخطاء ، فقد جانب الجميع نص الدستور ، الذي أعلن الجيش أنه عمادُ ثورته ، وبدأت الأخطاء ، وأخذ كل خطأ برقبة خطأ آخر ، وإذا بأعاصير الأخطاء تهب ، ذات اليمين وذات الشمال ، ومن فوق ومن تحت . والمرء ، وسط كل ذلك ، ذاهل  تأئه ، يحاول أن يصد هذا فيصرعه ذاك...".
        ويقول خالد محى الدين عضو مجلس قيادة الثورة فى مشكلة الوصاية : " ووقع الجميع في المأزق ، فقد كان من الضرورى أن يدعى مجلس النواب ليصادق على قرار التنازل ، وعلى تشكيل مجلس الوصاية على العرش " ، واقترح البعض دعوة مجلس النواب لإنجاز هذه المهمة ، ثم يحل على الفور ، ذلك أن إستمراره سوف يعني عودة حكومة الوفد فورًا ، لكن وحيد رأفت أفهم الضابط أن دعوة مجلس النواب ثم حله ، سيعنى وفق أحكام الدستور ، ضرورة إجراء إنتخابات نيابيةٍ ، في ظرف ستين يومًا ، وكان رأى وحيد رأفت بمفرده فى مقابل مستشارى مجلس الدولة بأنّ التنازل مثل الوفاة والمرض ؛ ولذلك كان لا بد من تطبيق حالة التنازل مثلها مثل المرض والوفاة ، أى دعوة مجلس النواب لإقرار الوصاية ، أما باقى المستشارين فقد كان رأيهم أنها حالة جديدة ، تستدعى وضعًا جديدًا ، يمكن فيه اعتبار مجلس الوزراء هو السلطة التشريعية ، وهو الذي يعين مجلس الوصاية نيابة عن مجلس النواب . وأسقط فى يد البعض ، قال عبد الناصر إنه يوافق على دعوة مجلس النواب ، ثم حله ، ودعوة الناخبين لانتخاب مجلس جديد ، وفق أحكام الدستور ، خلال ستين يومًا ، ولكن ضباط المدفعية والطيران وقفوا ضد هذه الفكرة بشدة وقالوا بصراحة إنهم قاموا بالحركة ، ولن يسلموها للآخرين جاهزة . وهذا الترتيب نفسه فى غِيابِ سلطةٍ سياسية منتخبة هو ما تردت به أحوال الوطن فى السنوات التالية .
        وما أشبه اليوم بالأمس ، فبمجرد غياب السلطة السياسية ، يطفو على السطح سلطة الموظفين ، لا اهتمام لهم بالسياسة ولا علمَ لهم بها ، وتظهر التفسيرات القانونية والدستورية التى توجه البلاد الى طريق خاطئ ، وتتخذ من تخويف الناس من تبعات إنتخاباتٍ سياسية عاجلة قبل أن يقوموا هم بإصلاح شأن القوانين ، ويأخذوا فى سن قوانين دون هيئةٍ تشريعية ؛ فتصدر أغلبها معوقة لعمل السلطة المنتخبة التى تأتى بعدهم ، والأدهى من ذلك أن تلك الفترات الإنتقالية لا يحاسَب أصحابها على ما أتو من أخطاء مثلما تحاسب عليه سلطة سياسية منتخبة .
        وفى الواقع أنا لا أسطتيع إتهامهم بالخيانة أو بالسعى إلى مصالحهم الخاصة ، وإن كان من المنطقى أن يعمل الإنسان لصالح نفسه ، إلا أننى أُسَبِّبُ تفسيراتهم إلى ما بَيّنْتُهُ فى صدر المقال من تأثُّر قرار كل فردٍ بعمله فى الحياةِ العملية ، فهو يرتب أولوياته بخدمة مهنته قبل خدمة المهن الأخرى .
        وخلاصةُ هذا فى نهاية الأمر أنّ تسليم السلطة لرئيس منتخب وهيئة تشريعية منتخبة على وجه السرعة هو أول خطوة على طريق الإنقاذ ، لأنه يحمل فى طياته المحاسبة ؛ أما سَنّ القوانين لمواجهة مواقف محددة ومعلومة هو عملٌ ثبت فشله تاريخيا فى مصر وفى العالم من قبلنا ، وغالبا ما يأتى بنتائج عكسية لمن أصدره ، بل وأكثر من ذلك فأحيانا ما عانى مَنْ أصدروا قانونا موجهًا مِنْ تَبعاتِ إصداره بعد تبادل المواقع وتطبيقه عليهم . إن وجود برلمانٍ مهما كانت عيوب أعضائه ومهما واجهت الإنتخابات من صعوبات أمنية ، لهو أفضل من غيبته ، ووجود رئيس منتخب هو أيضا أفضل من إدارة معينة للوطن .      
        وقد قَضَت مصر وقتًا طويلًا فى فتراتٍ إنتقالية وأحيانا ما تأتى الفترةُ تلو الأخرى ؛ وهو ما إنتهى بها إلى وضع إقتصادى يصعب إصلاحه ، وهو لاريب سببٌ من أسباب العُزوف عن التقدم لخدمتها . ومصر الآن مقبلة على إنتخاباتٍ رئاسية تليها فى القريب إنتخابات نيابية ، وأتمنى لو تُعقد تلك الإنتخابات فى موعدٍ قريب ، وأنْ يُشترط أن ينحصر الترشح لها فى المتعلمين من أبناء الوطن ، بل يمكن أيضًا تَجاوزُ ذلك الى الزام من ينجح أن يحصل على دورةٍ علمية فى السياسة والقانون ، فإن الكثير من الحكمة مطلوبٌ لمصر حاليا ، والعلم هو المُنَجِّى من المَهالك ؛ خاصة وقد أتت الفترات الإنتقالية على إحتياطى النقد الأجنبى بالبنك المركزى ، وهو ما هَزَّ مركز مصر المالى فى العالم بصورة غير مسبوقة فى التاريخ . 
  



(1)  انبنى عليه : ترتب عليه - معجم مجمع اللغة العربية
(2) مذكرات محمد نجيب " كلمتى للتاريخ " - أول رئيس للجمهورية المصرية