مجلس الشورى بين الإقرار والإلغاء
ترددت لجنة العشرة لتعديل
الدستور بين الإقرا والإلغاء ، ثم إلتفتت عن الأمر وتركت المشكلة لتحلها لجنة
الخمسين . وقد يحسن أن أبين أن هذا الأمر
هو من الأمور التى لا يصلح التوافق فيها ، بل يلزم الأخذ برأى الخبراء السياسيين
خاصة الدارسين لتاريخ الأمم وتأثير دساتيرها على تقدمها ، وما نفعها من ترتيبات
دساتيرها . ولا يفيد فى هذا المجال الإدعاء بأن الإنسان المصرى مختلف عن الإنسان فى
باقى دول العالم ؛ فإن ما نجحت به الأمم ستنجح به مصر لا محالة . وقد حدد جيمس
ماديسون الأكبر تأثيرا فى صياغة الدستور الأمريكى الأتى :
" فِى َترتيب الحُكومة لفَرض سُلطتِها بِواسطة رِجالٍ ، على رجالٍ
آخرين ، فإنَّ أكثرَ الصُعوباتِ شَأنا هىَ أنك تُعطى سُلطةً للحُكومة أولاً
للسيطرةِ على المُواطِنين ، ثُمَّ فى المكانِ التَالى تُجْبِرُها على أَنْ
تُراقِبَ نفسَها فى استخدامِ تلك القوة " .
من هُنَا نشأ
وجُوب تَعددِ السُلطات لِرقابة بَعضها بعضا . ومن هنا أيضا وَضُحَ أَنَّهُ من
الخطأ أنْ تُمنَحَ سُلطاتٌ غيرُ محدودةٍ لأىَّ من الرئيسِ أو البَرلمان ، أو
لكلَيْهما معاً مَهما تَوافرتْ النَوايا الحَسنة لكلٍ أو لأىٍ من السُلطتين ،
فإنَّه تُوجُد دائما بعض المخاطر مِن السقُوطِ فى الدكتاتورية . وتأسيسا على هَذا الفِكر فقد تَمَّ تفتيت
السلطةِ إلى سُلطةٍ تَشريعيةٍ ، وسلطةٍ تنفيذيةٍ ، وسلطةٍ قضائية .
ولذا فإنَّه يتَعيَّنُ للحُصولِ عَلى الديمُقراطية
لَيْسَ فقط أَنْ تعملَ كل سُلطةٍ مستقلةٍ عن السُلطاتِ الأخرى ، بل إنَّه يَجِبُ
أيضا منحُ كلٍ منها بَعضَ القُوى لِكَبحِ جِماحِ السُلطاتِ الأخرى . والهدفُ مِن
هذا ، هو خَلْقُ توازُنٍ فى مُمارسةِ السُلطةِ لِتلك الهيئات .
وبِهذا المَعنى
تَمَّ تأسيس مبدإ الإحتياج لِمَجلَسيْن تَشريعَييْن ، بِحيثُ يَتولى كلُ مجلسٍ
لمجموعةٍ من الصَّلاحيات ، بالإضافةِ إلى دور المجلَسيْن فى سَنِّ القوانين ، مِثل
اختصاص مجلسِ الشيوخ بالموافقةِ بالأغلبيةِ المطلقة على تَعييناتِ الوظائفِ العليا
، بمَا فيها المَحكمةِ العليا ، الذين يُرَشِّحهم الرئيس .
بَينما أُعطى الحقُ للرئيس فى الاعتراض على القوانين ، بحيثُ لايتم التغلب
على هذا الاعتراضِ إلا باغلبيةِ ثلثى
الأعضاء . كما أُعطى لنفس المجلس الحق فى الموافَقة عَلى المُعاهدات بأغلبِية
ثُلثى الأعضاء . بَينما أُعطيت سُلطة تحدِيدِ ومراقبةِ الميزانيةِ العامةِ للدولة
لمجلسِ النواب ، وكذا إنشاء الضَرائب العَامة والخَاصة . وللمجلسين معاً سلطةُ
إِعلانِ الحرب وتَوفيرِ المَواردِ المَالية اللازمةِ لها بينما مُنِحَ رئِيسُ
الجمهورية القِيادةَ العليا للقواتِ المسلحةِ . بهذا الأسلوب تصبحُ السُلطةُ
مفتتةً أو ذائبةً فى كياناتٍ مختلفةٍ بحيثُ يُصبِحُ من المستحيل على أَىَّ سلطةٍ
منفردةٍ أن تحوزَ أيةَ سلطاتٍ طاغيةٍ .
وقد يُطِلقُ البَعضُ على مثل هَذه التَرتيبات أوصَافاً عديدةً ، مثل التوسُعِ
فى مصروفاتِ الإدارة بعمل مجلسين أومثل التَعْوِيقِ أو عدمِ الكفاءةِ أو
البيروقراطيةِ فى تقدمِ الأمة ، إلا أَنَّه يَصعُب إيجادِ طريقٍ أسهلَ من ذلك
للحفاظِ على حريةِ الشعب . كما جَاءَ ذلك فى حَيْثياتِ أحد الأحكامِ القضائيةِ
الشهيرةِ للمحكمة العليا الأمريكية فى هذا الشأن " أَنَّ هذه الإجراءات
تُعْتَبرُ ثمناً زهيداً مُقابل مكاسبِ الحرية " .
كما أَنَّه مَنْهجياً ، فإنَّ
ديمقراطية الأُمةِ تستقرُ على أعمدةٍ من
وبمراجعة التاريخ فإن اعتماد فرنسا فى الجمهورية الثالثة والرابعة على
مَجْلسٍ تشريعى واحدٍ أَسْقطَ الأمَّة فى قبضة دِكتاتُورية المجلس التشريعى الوحيد
فيها ، وذلك بالإضافة إلى قيام المجلس بانتخاب رئيس الجمهورية ، وهو ما يجعل ولاءه
للمجلس وليس للنَاخب مُباشرة . ولم تُفْلِحْ الوزارات العَديدة فى تَحْسين وضع
سلطات البرلمان ، حتى أُسْقِط فى يَدِ الأمة ، واستُدْعِىَ ديجول . وكانت أُسُس
الإصلاح فى هذه الحالة هِى إنشاء مجلسَيْن نيابَيْين متساويَيْن فى القوى ، بينما
تختلف أُسُس الترشيح لكل منهما عن الآخر ، مما يُرَسِّخ التمثيل الجيد لِقُوى
الشعب فى مجلس والمثقفين فى مجلس آخر .
ومن المُلاحَظِ أَنَّ الأُممَ قَدْ تَأْخُذ وَقتاً كبيرا للوصول إلى
ديمقراطية متوازنة من خلال التجارب الدستورية ، إلا أَنَّ الدول التى أخذت بتجارب
الآخرين وأنشأت دستورا متوازنا مبنياً على خِبْراتِ الآخرين اخْتصَرَتْ الوقت
بِقَدْرٍ عَظِيمٍ ، ولنا عبرة فى دول الكتلة الشرقية التى إنفصلت فى التسعيناتمثل
لتوانيا واستونيا وانشأت ديمقراطيات جيدة ، مبنية على تجارب الأخرين فيىما لا يجاوز
الأشهر .
مِن الغَريب أن الدُستور المِصرى تَبنَّى نفس ايديولوجيات الدُستور
الفَرنسى للجُمهورِيَّة الثالثة والرابعة ، مثل مَجلسٍ نيابىٍ واحد يَسُنُّ
القَوانين والمَجلس الآخرُ بِلا سُلطات تَشريعية ، ورئيس الجمهورية َقائداً للبلاد
لا يتحمل مسئولية قراراتِه بل يتحملها عنه رَئيس الوُزراء ، وعَدم وجُود اى فَصلٍ
بين السلطات . فكَيف تصّورنا أن نَتبَنى نَفس السِياسات ونَحصل عَلى نَتيجةٍ
مُختلفة ، حتّى بَعد أن وَضح لَنا أننا نَنْحَدرُ إلى نفسِ الهوه ، لم نأخذ
بالحُلول التى أصْلَحت فرنسا .
إنّ حيَادِيَّة القُواتِ المُسلَّحة ، وبُعْدِها عن التَدخُّل فى السياسة
له تَأثير كَبير فى وصُوُل الأمة إلى مبْتَغاها . وقَدْ ظَهرَ هذا جَليّاً فى
التجربَة الفَرنسية ، حيث تدهورت الدولة بطريقة دراماتيكية حَالَ تَدخُّل القُوات
المُسلحة فى مثل ما حدث فى عهد نابليون ، ثم مَرَّةً أُخرى فى عَهْدِ لويس فيليب ،
بينما كان بُعْدُ القواتِ المسلحة من السَّاحة السياسية فى عصر ما بعد الحرب
العالمية الثانية ما مَكَّنَ القُوَى الوطنية من الوصول إلى تَرْتيبٍ جَيدٍ .
إنَّ
تَداخُلَ سُلطَاتِ رئيسِ الجمهورية ورئيس الوزراء يُعْتَبر من أَهمِّ مُعَوِّقاتِ
التَقدُّم فى البلاد . وقد ظهر فى أوقاتٍ مُتَفرِقة من تاريخ فرنسا أنَّ الهدف من
إنشاء مَنْصِب رئيسِ الوزراءِ فى دستورٍ رئاسىٍّ هو تحميله بِتبعاتِ القَرارات
التى يُقرِّرها الرئيس . ومن المُفَضَّل دائما تَحْمِيلُ صَاحِب القرار لتبعاتِ
قرارِهِ .
وتبنت أمريكا فى دستورها وبريطانيا في نظامها الدستوري نفس المبدأ في تَحديد
عَدم قُدرة الرئيس على حَلَّ مَجْلِس الشيوخ والنواب ، وأيضاً في ظِل التجديد
النِصفي لأعضَائِه ، وأيضا مبدأ أن جميع أعضاء المجلسين الذين لهم حق التصويت
منتخبون من القاعدة ، وهذه الترتيبات فى مُجْملها معمول بها في كل من فرنسا
وأمريكا ، أما في بريطانيا فإنه يمكن القولُ بأن العُرْف البريطاني قد فَرضَ مثل
هَذا الترتيب .
وقد تَبنَّى الدستور الأمريكي هذا المبدأ حيث يُمثَّل رئيسُ الجمهورية
حَالَ انتخابه بالأغلبية المطلقة ما يُوازِي ثُلثَ وزن سُلطة الأمة ، بينما يمثل
البرلمان بمجلسيه ثلثي سُلطة الأمة ، وتبقى السلطة القضائية خارج المعادلة من خلال
استقلالها التام عن السُلطتين .
ومن الملاحظ أنه في النظام الرئاسى ، ومع وجود مثل الضمانات التي تَحُدُّ
من سُلطةِ البرلمان أو أحد مجلسيه ، فإنّ البرلمان يظل له السُلطة العليا في
البلاد ، إذ لا يُمكن لقانونٍ ان يصدر إلا مِن خِلاله ، غير انه فى هذه الحَالة
تُصبح سُلطة البرلمان أكثر ترشيداً وأكثر فائدةً للمجتمع .
إنّ معادلة قوة الهيئةِ التشريعيةِ بقوةٍ من الرئيس في هَيئاتٍ متعددة منها
حَقُّ النقض للقوانين التي تٌصْدِرُها المَجالس التشريعية . وفي نفس الوقت إعطاء
المَجالس التشريعية ، في معادلةٍ لقوةِ الرئيس ، الحقَ فى إقرارِ القانونِ نفسه بأغلبية ثلثي المجلس بعد رَفْضِه من الرئيس
، أى بِشِبْهِ إجْمَاعٍ لمُمثلى الأمة . وهو فى رَأْيِنا توازُنٌ جيد للسلطَتيْن
حيث تعمل كل سُلطة حِسابا للأخرى ، وهو مانتَجَ عنه وجُود تُواصُلٍ بين السلطَتيْن
فى سبيل حل مشاكلهما معا ، وهو ما يصب فى صالح الشعب .
20 سبتمبر 2013
عبد
السلام الشاذلى
No comments:
Post a Comment