Saturday, September 21, 2013

مجلس الشورى بين الإقرار والإلغاء

مجلس الشورى بين الإقرار والإلغاء

          ترددت لجنة العشرة لتعديل الدستور بين الإقرا والإلغاء ، ثم إلتفتت عن الأمر وتركت المشكلة لتحلها لجنة الخمسين .  وقد يحسن أن أبين أن هذا الأمر هو من الأمور التى لا يصلح التوافق فيها ، بل يلزم الأخذ برأى الخبراء السياسيين خاصة الدارسين لتاريخ الأمم وتأثير دساتيرها على تقدمها ، وما نفعها من ترتيبات دساتيرها . ولا يفيد فى هذا المجال الإدعاء بأن الإنسان المصرى مختلف عن الإنسان فى باقى دول العالم ؛ فإن ما نجحت به الأمم ستنجح به مصر لا محالة . وقد حدد جيمس ماديسون الأكبر تأثيرا فى صياغة الدستور الأمريكى الأتى :
" فِى َترتيب الحُكومة لفَرض سُلطتِها بِواسطة رِجالٍ ، على رجالٍ آخرين ، فإنَّ أكثرَ الصُعوباتِ شَأنا هىَ أنك تُعطى سُلطةً للحُكومة أولاً للسيطرةِ على المُواطِنين ، ثُمَّ فى المكانِ التَالى تُجْبِرُها على أَنْ تُراقِبَ نفسَها فى استخدامِ تلك القوة " .
من هُنَا نشأ وجُوب تَعددِ السُلطات لِرقابة بَعضها بعضا . ومن هنا أيضا وَضُحَ أَنَّهُ من الخطأ أنْ تُمنَحَ سُلطاتٌ غيرُ محدودةٍ لأىَّ من الرئيسِ أو البَرلمان ، أو لكلَيْهما معاً مَهما تَوافرتْ النَوايا الحَسنة لكلٍ أو لأىٍ من السُلطتين ، فإنَّه تُوجُد دائما بعض المخاطر مِن السقُوطِ فى الدكتاتورية  . وتأسيسا على هَذا الفِكر فقد تَمَّ تفتيت السلطةِ إلى سُلطةٍ تَشريعيةٍ ، وسلطةٍ تنفيذيةٍ ، وسلطةٍ قضائية .
ولذا فإنَّه يتَعيَّنُ للحُصولِ عَلى الديمُقراطية لَيْسَ فقط أَنْ تعملَ كل سُلطةٍ مستقلةٍ عن السُلطاتِ الأخرى ، بل إنَّه يَجِبُ أيضا منحُ كلٍ منها بَعضَ القُوى لِكَبحِ جِماحِ السُلطاتِ الأخرى . والهدفُ مِن هذا ، هو خَلْقُ توازُنٍ فى مُمارسةِ السُلطةِ لِتلك الهيئات .
وبِهذا المَعنى تَمَّ تأسيس مبدإ الإحتياج لِمَجلَسيْن تَشريعَييْن ، بِحيثُ يَتولى كلُ مجلسٍ لمجموعةٍ من الصَّلاحيات ، بالإضافةِ إلى دور المجلَسيْن فى سَنِّ القوانين ، مِثل اختصاص مجلسِ الشيوخ بالموافقةِ بالأغلبيةِ المطلقة على تَعييناتِ الوظائفِ العليا ، بمَا فيها المَحكمةِ العليا ، الذين يُرَشِّحهم الرئيس .

بَينما أُعطى الحقُ للرئيس فى الاعتراض على القوانين ، بحيثُ لايتم التغلب على هذا  الاعتراضِ إلا باغلبيةِ ثلثى الأعضاء . كما أُعطى لنفس المجلس الحق فى الموافَقة عَلى المُعاهدات بأغلبِية ثُلثى الأعضاء . بَينما أُعطيت سُلطة تحدِيدِ ومراقبةِ الميزانيةِ العامةِ للدولة لمجلسِ النواب ، وكذا إنشاء الضَرائب العَامة والخَاصة . وللمجلسين معاً سلطةُ إِعلانِ الحرب وتَوفيرِ المَواردِ المَالية اللازمةِ لها بينما مُنِحَ رئِيسُ الجمهورية القِيادةَ العليا للقواتِ المسلحةِ . بهذا الأسلوب تصبحُ السُلطةُ مفتتةً أو ذائبةً فى كياناتٍ مختلفةٍ بحيثُ يُصبِحُ من المستحيل على أَىَّ سلطةٍ منفردةٍ أن تحوزَ أيةَ سلطاتٍ طاغيةٍ .
وقد يُطِلقُ البَعضُ على مثل هَذه التَرتيبات أوصَافاً عديدةً ، مثل التوسُعِ فى مصروفاتِ الإدارة بعمل مجلسين أومثل التَعْوِيقِ أو عدمِ الكفاءةِ أو البيروقراطيةِ فى تقدمِ الأمة ، إلا أَنَّه يَصعُب إيجادِ طريقٍ أسهلَ من ذلك للحفاظِ على حريةِ الشعب . كما جَاءَ ذلك فى حَيْثياتِ أحد الأحكامِ القضائيةِ الشهيرةِ للمحكمة العليا الأمريكية فى هذا الشأن " أَنَّ هذه الإجراءات تُعْتَبرُ ثمناً زهيداً مُقابل مكاسبِ الحرية " .
كما أَنَّه مَنْهجياً ، فإنَّ ديمقراطية الأُمةِ تستقرُ على أعمدةٍ من

وبمراجعة التاريخ فإن اعتماد فرنسا فى الجمهورية الثالثة والرابعة على مَجْلسٍ تشريعى واحدٍ أَسْقطَ الأمَّة فى قبضة دِكتاتُورية المجلس التشريعى الوحيد فيها ، وذلك بالإضافة إلى قيام المجلس بانتخاب رئيس الجمهورية ، وهو ما يجعل ولاءه للمجلس وليس للنَاخب مُباشرة . ولم تُفْلِحْ الوزارات العَديدة فى تَحْسين وضع سلطات البرلمان ، حتى أُسْقِط فى يَدِ الأمة ، واستُدْعِىَ ديجول . وكانت أُسُس الإصلاح فى هذه الحالة هِى إنشاء مجلسَيْن نيابَيْين متساويَيْن فى القوى ، بينما تختلف أُسُس الترشيح لكل منهما عن الآخر ، مما يُرَسِّخ التمثيل الجيد لِقُوى الشعب فى مجلس والمثقفين فى مجلس آخر .
ومن المُلاحَظِ أَنَّ الأُممَ قَدْ تَأْخُذ وَقتاً كبيرا للوصول إلى ديمقراطية متوازنة من خلال التجارب الدستورية ، إلا أَنَّ الدول التى أخذت بتجارب الآخرين وأنشأت دستورا متوازنا مبنياً على خِبْراتِ الآخرين اخْتصَرَتْ الوقت بِقَدْرٍ عَظِيمٍ ، ولنا عبرة فى دول الكتلة الشرقية التى إنفصلت فى التسعيناتمثل لتوانيا واستونيا وانشأت ديمقراطيات جيدة ، مبنية على تجارب الأخرين فيىما لا يجاوز الأشهر .
مِن الغَريب أن الدُستور المِصرى تَبنَّى نفس ايديولوجيات الدُستور الفَرنسى للجُمهورِيَّة الثالثة والرابعة ، مثل مَجلسٍ نيابىٍ واحد يَسُنُّ القَوانين والمَجلس الآخرُ بِلا سُلطات تَشريعية ، ورئيس الجمهورية َقائداً للبلاد لا يتحمل مسئولية قراراتِه بل يتحملها عنه رَئيس الوُزراء ، وعَدم وجُود اى فَصلٍ بين السلطات . فكَيف تصّورنا أن نَتبَنى نَفس السِياسات ونَحصل عَلى نَتيجةٍ مُختلفة ، حتّى بَعد أن وَضح لَنا أننا نَنْحَدرُ إلى نفسِ الهوه ، لم نأخذ بالحُلول التى أصْلَحت فرنسا .
إنّ حيَادِيَّة القُواتِ المُسلَّحة ، وبُعْدِها عن التَدخُّل فى السياسة له تَأثير كَبير فى وصُوُل الأمة إلى مبْتَغاها . وقَدْ ظَهرَ هذا جَليّاً فى التجربَة الفَرنسية ، حيث تدهورت الدولة بطريقة دراماتيكية حَالَ تَدخُّل القُوات المُسلحة فى مثل ما حدث فى عهد نابليون ، ثم مَرَّةً أُخرى فى عَهْدِ لويس فيليب ، بينما كان بُعْدُ القواتِ المسلحة من السَّاحة السياسية فى عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية ما مَكَّنَ القُوَى الوطنية من الوصول إلى تَرْتيبٍ جَيدٍ .
          إنَّ تَداخُلَ سُلطَاتِ رئيسِ الجمهورية ورئيس الوزراء يُعْتَبر من أَهمِّ مُعَوِّقاتِ التَقدُّم فى البلاد . وقد ظهر فى أوقاتٍ مُتَفرِقة من تاريخ فرنسا أنَّ الهدف من إنشاء مَنْصِب رئيسِ الوزراءِ فى دستورٍ رئاسىٍّ هو تحميله بِتبعاتِ القَرارات التى يُقرِّرها الرئيس . ومن المُفَضَّل دائما تَحْمِيلُ صَاحِب القرار لتبعاتِ قرارِهِ . 

وتبنت أمريكا فى دستورها وبريطانيا في نظامها الدستوري نفس المبدأ في تَحديد عَدم قُدرة الرئيس على حَلَّ مَجْلِس الشيوخ والنواب ، وأيضاً في ظِل التجديد النِصفي لأعضَائِه ، وأيضا مبدأ أن جميع أعضاء المجلسين الذين لهم حق التصويت منتخبون من القاعدة ، وهذه الترتيبات فى مُجْملها معمول بها في كل من فرنسا وأمريكا ، أما في بريطانيا فإنه يمكن القولُ بأن العُرْف البريطاني قد فَرضَ مثل هَذا الترتيب .   
وقد تَبنَّى الدستور الأمريكي هذا المبدأ حيث يُمثَّل رئيسُ الجمهورية حَالَ انتخابه بالأغلبية المطلقة ما يُوازِي ثُلثَ وزن سُلطة الأمة ، بينما يمثل البرلمان بمجلسيه ثلثي سُلطة الأمة ، وتبقى السلطة القضائية خارج المعادلة من خلال استقلالها التام عن السُلطتين .
ومن الملاحظ أنه في النظام الرئاسى ، ومع وجود مثل الضمانات التي تَحُدُّ من سُلطةِ البرلمان أو أحد مجلسيه ، فإنّ البرلمان يظل له السُلطة العليا في البلاد ، إذ لا يُمكن لقانونٍ ان يصدر إلا مِن خِلاله ، غير انه فى هذه الحَالة تُصبح سُلطة البرلمان أكثر ترشيداً وأكثر فائدةً للمجتمع .
إنّ معادلة قوة الهيئةِ التشريعيةِ بقوةٍ من الرئيس في هَيئاتٍ متعددة منها حَقُّ النقض للقوانين التي تٌصْدِرُها المَجالس التشريعية . وفي نفس الوقت إعطاء المَجالس التشريعية ، في معادلةٍ لقوةِ الرئيس ، الحقَ فى إقرارِ القانونِ نفسه بأغلبية ثلثي المجلس بعد رَفْضِه من الرئيس ، أى بِشِبْهِ إجْمَاعٍ لمُمثلى الأمة . وهو فى رَأْيِنا توازُنٌ جيد للسلطَتيْن حيث تعمل كل سُلطة حِسابا للأخرى ، وهو مانتَجَ عنه وجُود تُواصُلٍ بين السلطَتيْن فى سبيل حل مشاكلهما معا ، وهو ما يصب فى صالح الشعب .
20 سبتمبر 2013                                                                  عبد السلام الشاذلى                 

No comments:

Post a Comment